اليوم، المسلم يجب عليه أن يتحرى وأن يتحقق في تعلمه، خاصة في ظل انتشار وسائل التواصل الحديثة التي مَكَّنَتْ كل متكلم أن يفصح عما في مكنونه -حقا وصدقا كان أو باطلا وكذبا-، فضلا عن تمكين كل داعي إلى بدعة من بث ضلالاته وانحرافاته، وتزيينها كلها بالشبه التي تلبس الحق بالباطل، كما كان يصنع أهل الكتاب إذ يقول الله تعالى عنهم {لم تلبسون الحق بالباطل}، فكما أن النظر في أحوال العالَم اليوم وظروفه يُحَتِّم أن يتثبت المسلمُ في تَدَيُّنه، كما أن هذا التثبت سنة ماضية سلفية، أوصى بها أئمة السنة لمن يأتي بعدهم ألا يأخذوا عمن كل من “هبّ ودبّ”، وأقوالهم في هذا كثيرة جدا، منها:
كما قالت عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب } قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». متفق عليه. فهذا أمر منه ﷺ بالحذر، فأما عدم التوقي مطلقا، فليس من هديه، ومن هذا:
قول رسول الله ﷺ: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم، ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم، ولا يفتنونكم»[1].
وقد عمل بهذا الصحابة رضي الله عنهم، فعن ابن عباس: «إنا كنا نحدث عن رسول الله ﷺ إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه» وفي لفظ: لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.[2]
وقال محمد بن سيرين التابعي: ” كان يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه.”[3]
وقال مالك: لا يؤخذ العلم من أربعة، رجل معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ورجل يكذب في أحاديث الناس إذا حدث بذلك وإن كنت لا تتهمه أن يكذب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وصاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، وشيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به.[4]
ومع كل هذه النصوص والآثار: تريد أن تسير بسيرة الأعمى الذي لو أُخذ إلى أرض المهالك، لسار بسير من يقوده! تصر على ألا تتثبت، ولا تتحرى، وتأخذ عن كل من تهوى، وترجو أن تَسْلَمَ -بهذه المجازفة والتهور- من الهلاك مع الفرق الثلاث وسبعين الهالكة؟!
فإن قيل: كيف يكون التثبت؟ وإلى ماذا أنظر وأختبر المتكلم في العلم إن لم يكن عندي توثيق أشد به على يدي؟
فمن الجواب ما هو عام، كقولنا يجب أن تكون له عناية بالتوحيد والعقيدة السلفية، وأن يعتني بالحديث، وليس الحديث فقط، بل يتحرى الحديث الصحيح، وينهى عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ويحذر البدعة التي تخالف ما عليه النبي ﷺ وأصحابه، ويدين بما عليه أئمة التابعين والسنة كالسفيانين ومالك والأوزاعي والشافعي كأحمد وإسحاق والبخاري وأبي داود والترمذي والرازيين وغيرهم رحمهم الله.
ومن هذا أن يقرر مسائل السنة التي أجمع عليه السلف، وحكموا على من خالفها بالبدعة، كما ذكر الإمام أحمد رحمه الله في أصول السنة، كقوله “أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب محمد ﷺ والاقتداء بهم، وترك البدع.. وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء.. والسنة تفسر القرآن.. وليس في السنة قياس ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو الاتباع وترك الهوى.”
فمعرفة هذا -وإن كان أصيلا وجوهريا لا بد منه- ولا بد من اعتباره، فهو يصلح مقدمة، ولا يعفيك من الحاجة إلى مزيد من التفصيل والاستفصال، خاصة أنك اليوم تعيش زمن “سنوات خداعات” يتفنن “الدعاة” في الخداع والتعمية، ويعتبرون الوضوح والصراحة يحققان المفاسد لا المصالح!
ويتعين على المسلم معرفة طريق المخالفين للحق إما إجمالا أو تفصيلا، فمعرفة الباطل -ولو على سبيل الإجمال- تجب على عموم المسلمين. قال تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} وهذه السورة يقرأها كل مسلم فيدرك أن في الأمة البشرية من هو منعَم عليه، ومن هو ضال ومغضوب عليه؛ فهذه المعرفة العامة تجب وجوبا عينيا، أما على وجه التفصيل، فقد لا يتعين إلا على من يحتاج إلى نوع جهاد من رد وكشف وتحذير، مع أن الله تعالى قال: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} لأنه في مقام بيان طريق المجرم المخالف للحق، ولهذا لا بد من التفريق بين مقام البيان ومقام المعرفة، وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في الكلم على هذه الآية في كتاب الفوائد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 533): “وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم، ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفةً تميز بينه وبين المباح والمعروف، والمستحب والواجب، حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات؛ إذ الفرض علينا تركها، ومن لم يعرف المنكر -جملة ولا تفصيلا- لم يتمكن من قصد اجتنابه، والمعرفة الجملية كافية، بخلاف الواجبات: فإن الغرض لما كان فعلها، والفعل لا يتأتى إلا مفصلا، وجبت معرفتها على سبيل التفصيل.”
فالواجب عليك -حتى لا تقع في حبال شباكه- أن تعرف انتماءه العقدي والتعبدي، من أشعرية أو ماتريدية ونحوها من المذاهب المنتشرة المخالفة لعقيدة السلف، ويجب أن تعرف اتجاهه التنظيمي الحزبي، ومواقفه من التنظيمات المعاصرة وأئمتها، ومن أشهرها: تنظيم الإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ، ويجب أن تعرف مواقفه من مسائل السنة العملية، كانحرافات التكفيريين والجهاديين كداعش وجبهة النصرة والقاعدة! كل هذا مع عدم الكفاية بالأجوبة العامة الخادعة!
هكذا ينبغي أن يكون المؤمن: كَيِّساً فَطِناً، صاحبَ فرقان، {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}!
فدون أن تعرف على تفصيل من تأخذ عنه العلم والعقيدة والفتوى والموعظة، فأنت عُرضة لأن تكون: صوفيا وأنت لا تشعر، إخوانيا تنظيميا وأنت لا تشعر، خارجيا تكفيريا وأنت لا تشعر، حزبيا متعصبا وأنت لا تشعر!
فلا تُفَرِّط في التحَرِّي لدينك، فإن القلب ضعيف، يميل مع أول محبوب، وينكسر مع أعذب كلام، فلا تأمن أن تزيغ مع من زاغ من الأنام!
[1] رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/ 12) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسنده حسن، فيه مسلم بن يسار المصري، وليس بالبصري، وهو صدوق كما قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 514)، ونقل عن الدارقطني قوله يُعتبر به. ونحوه في ميزان الاعتدال (4/ 107) فقال: “ولا يبلغ حديثه درجة الصحة، وهو في نفسه صدوق.” يعني لا ينزل عن درجة الحسن والله أعلم، فهذا أحسن من قول الحافظ في التقريب: “مقبول”، يعني حيث يتابَع، كما بين اصطلاحه في مقدمة التقريب، ولعله وقف على قول أحمد وأنه لم يعرفه، فحاول بقوله هذا التوفيق، ولكن القاعدة: من علم حجة على من لم يعلم، فمن جهله أحمد قد عرفه غيره كالدارقطني. هذا وللحديث شواهد. والله أعلم.
[2] رواه مسلم في مقدمة صحيحه (1/13).
[3] رواه ابن أبي شيبة (5/ 334) 26636 – حدثنا معاذ بن معاذ، قال: حدثنا ابن عون، عن محمد. وهذا الأثر رواه جمع غفير من المصنفين، لما فيه من الأهمية البالغة والقاعدة السنية العظيمة.
[4] رواه جمع، منهم ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/ 32).