[ هل التهنئة بحلول يوم الجمعة سنة وهدي مستحب ؟ ]
الحمد لله وحده وأشهد ألا إله غيره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد،
يوم الجمعة، يوم مبارك، جاء في فضله عدد من النصوص الصحيحة العظيمة.
منها أن الله كتبه علينا وأنه هدانا له من بين الأمم قبلنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا، هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا، والنصارى بعد غد» [البخاري: 896، مسلم: 855].
ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها» رواه مسلم (2/ 585)، وزاد في رواية: ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».
ومنها ما رواه أحمد في مسنده (24/ 314) وابن ماجه في سننه 1084 وحسنه الألباني رحمهم الله عن أبي لبابة البدري بن عبد المنذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها عنده، وأعظم عند الله من يوم الفطر، ويوم الأضحى، وفيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبدُ فيها شيئا، إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة ما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا رياح، ولا جبال، ولا بحر، إلا هن يشفقن من يوم الجمعة”.
ومنها: أن الدين أكمله الله لنا يوم الجمعة، قال تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم }، وقد ثبت في الصحيحين أن ذلك اليوم الذي نزلت فيه الآية هو يوم الجمعة، في عرفة [البخاري: 45، مسلم: 3017]. وهذه الآية أحد عشرات الأدلة على إبطال البدع المحدثة.
ولهذا اليوم من الخصائص الشيء الكثير، وبالجملة: هو يوم يُشرع فيه الاجتهاد في التعبد لله تعالى كما قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1 /375): وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقال رحمه الله في زاد المعاد (1/398) في الخصيصة الثالثة والعشرين: أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان. ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سَنَته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صح له سائر عُمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر. انتهى.
ومن الخصائص التي وردت:
تخصيص يوم الجمعة بقراءة سورتي {الم. السجدة} و{وهل أتي على الإنسان} في صلاة الفجر. متفق عليه من حديث أبي هريرة، وانفرد مسلم بإخراجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهم.
ومنها الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث أوس بن أبي أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي» رواه أحمد 16162 وأصحاب السنن وصححه الألباني. وليس الحكم يختص بيومه دون ليله ففي الحديث الصحيح: “أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا “. رواه البيهقي في سننه وصححه الألباني في الصحيحة (3/ 397) برقم: 1407.
ومنها قراءة سورة الكهف -على بحث في حكم رفع الأثر في ذلك-، والاغتسال فيه ولصلاته، والتبكير والتطيب والتسوك، والإنصات للخطبة في صلاة الجمعة، وما يجهر فيها على المنابر من التوحيد وذكر الله وتحميده وتمجيده، ومنها قراءة القرآن، والإكثار من ذكر الله تعالى فيه، والدعاء، خاصة في الساعة التي يرجى فيها إجابة الدعاء، واختُلف في تعيينها والأحاديث فيها، وأفردناه في بحث مستقل، خلاصته أنه قد صح الحديث في أنها الساعة الأخيرة من العصر.
والمقصود، تعدد العبادات وأنواعها يوم الجمعة مما يطول ذكره، ومن شاء الاستزادة فليرجع إلى كتاب “زاد المعاد” لابن القيم رحمه الله ج.1 ص.375، فقد ذكر منها ثلاثة وثلاثين خصيصة، وزاد السيوطي -كعادته في التجميع- على ابن القيم، في كتابه “دور اللمعة في خصائض الجمعة” فبلغ مائة خصيصة ليوم الجمعة. وقد خصه كثير من الأئمة بالتبويب والتصنيف، كأبي بكر المروزي في “فضل الجمعة” وغيره.
والمقصود أن ما ورد من الخصائص المنصوصة الثابتة هو المشروع، الذي دلت عليه النصوص وكان عليه السلف، ولو بقيت سنة ثابتة وعبادة مشروعة فيه يمكنهم أن يتعبدوها لقاموا بها أشد القيام، إذ كانوا السباقين إلى كل خير وفضيلة، وكانوا أحرص عليها ممن يأتي بعدهم، لعلمهم بما فُضل به ذلك اليوم!
فإن جاءنا أحد بعدهم فخَصَّصَ يوم الجمعة بشيء لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تشريعه، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم فعله والتعبد به، قيل له ما قال تعالى من قبل { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }، فيطالَب بدليل لفعله هذا كما يُطالب كلُّ متعبد لله تعالى بقربة بالدليل والحجة والبرهان على قربته. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، ألا يتعبد بعبادة إلا بنص، قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ }، ولهذا اشتد نكير أئمة السنة على من يسلك مسلك التعبد المحدث: البدعة!
وفهم هذه القاعدة من أنفع الأشياء للمسلم، ومما يوضحها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» رواه مسلم برقم: 148.
وهذا الحديث قاعدة لجميع الأعمال التي تخصص فيها العبادات، فإن التخصيص بالعبادة نوع من التشريع الذي هو حق يملكه الرب جل وعلا ولا يملكه غيره، فما شرع لنا في الكتاب والسنة أخذنا به وما لم يشرع لنا في الكتاب والسنة طرحناه ونهينا عنه، وهذا يتضمن تخصيص يوم الجمعة أو غيره من الأيام بعبادة كما سبق تعداد ما ثبت منها؛ فالعبادة مشروعة في وقتها المشروع المنصوص عليه، وتخصيصها إن لم يكن من الشارع فمردود على صاحبه، فافهم هذا، ينفعك في كشف كثير من الأعمال البدعية! ومن هذا الباب جميع أنواع التخصيصات، سواء كان التخصيص في زمان أو مكان، لا يشرع شيء من ذلك إلا بقال الله وقال الرسول، وبفهم الصحابة رضوان الله عليهم. فالمتابعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تتحقق بماذا؟ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 334)، قال: “بماذا تتحقق متابعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ [قال] أقول: لا تتحقق المتابعة حتى تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام في أمور ستة: في سببها، وجنسها، وقدرها، وصفتها، وزمانها، ومكانها.” ثم ذكرها وشرحها رحمه الله، ولولا خشية الإطالة لنقلت الكلام برمته وأمثلته، فارجع إليه تتحصل لك فائدة بإذن الله.
والمقصود أن يوم الجمعة لا يجوز أن يخص بنوع من العبادات ويحافظ ويواظب عليها إلا بدليل واضح بين من الكتاب والسنة وهدي الصحابةرضي الله عنهم، حتى لو كان أصل العبادة مشروعة -كالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم- فإن تخصيصها بزمن معين والعناية بها في ذلك الزمن -الجمعة مثلا- يفتقر إلى إذن من الشارع.
ومما يوضح هذا، أن الأئمة أنكروا في هذا اليوم -الجمعة- أشياء وأعمالا أصلها مشروع لعدم ورود الدليل عليها، ولا فعل صحابي لها.
فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه “باب في رفع الأيدي في الدعاء يوم الجمعة” (1/ 475) عن الإمام الزهري التابعي الجليل، قال: «رفع الأيدي يوم الجمعة محدث». وروى عن جمع غيره نحوه، ابن سيرين، وطاوس، والأعمش، وغيرهم. ورفع الأيدي المراد به الدعاء، سواء في الخطبة أو الصلاة، والله أعلم، وقد روى شيبة 2/595 رقم 5452 “في القنوت في يوم الجمعة” عن طاوس ومكحول وإبراهيم: القنوت يوم الجمعة بدعة، وروى (5457) عن نافع مولى ابن عمر: لم يكن عبد الله بن عمر يقنت في الفجر والجمعة.
وقد عدد الألباني رحمه الله كثيرا من بدع يوم الجمعة حتى بلغت سبعة وسبعين بدعةً، كما في كتابه ” الأجوبة النافعة” ص.155.
ومما يلاحَظ في هذا اليوم، تخصيص كثير من عوام المسلمين -جزاهم الله خيرا- هذا اليوم، بالتهنئة والتبريك بحلوله، كالتهنئة بالأعياد، وهذا شيء لا نعلمه عن الصحابة؛
ومن ذلك أيضا، التذكير بالرسائل عبر وسائل التواصل بالصلاة والسلام على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضا لا نعلمه عن السلف، لا نعلم أحدا قام على رؤوس الأشهاد يذكر الناس بالصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك، بعث رسائل، يقال فيها “جمعة مباركة” ونحوها من العبارات، إما على أنه تهنتئة به، أو التذكير بالتعبد به، وسواء هذا أو ذاك، فلا يشرع إلا مع ما يؤيده من فعل السلف!
أما إذا كان التذكير بهذا عَرَضاً -لا قصداً ومواظبةً- في مجلس أو مُدارسة أو منشور، وخلا الأمر من التخصيص الذي تقدم تفصيله، جاز والله أعلم.
وهذا مع علمنا بأن الناس تستحسن الأمور التي فيها تواد وتواصل وتحاب بين المسلمين، مع ما في ذلك من حسن المقصد ومحبة الخير، وهو أمر محبوب مندوب إليه بلا شك، مجبولة عليه الفطر السليمة، إلا أن الفطر لا تتم سلامتها إلا باتباع الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [-وهذا يشمل المتبعين للصحابة المقتفين آثارهم إلى يوم القيامة-] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، نسأل الله تعالى أن يبصرنا ديننا ويوفقنا للعمل بسنته صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، والصحابة أجمعين رضوان الله عليهم.
والحمد لله تعالى أولا وآخرا.