“الحق ما صدر عني لا غيري”!!

قال تعالى {وهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، فلم يقف الأمر عند الإعراض والنأي بالنفس عن الانقياد للحق، وإنما تجاوز ذلك إلى أن ينهوا الناسَ عنه، وهذا في القرآن كثير، كما قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام مخاطبا قومه {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} وقوله {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} وقال {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} وفي قصة موسى عليه السلام من هذا قول فرعون: {إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} وقول مؤمن آل فرعون {أتقتلون رجلا أن يقول الله}  ومثلها كثير.

والمقصود أن الله تعالى ذكَّرَنا بذم طريقة من صد عن سبيله لئلا نقع في مثلها، فإذا قال أحدٌ الحقَّ فالواجب أن نقول: صَدَقَ! بل حتى لو كان المتكلمُ كذوباً، فصدق في كلمته فنقول له كما قال النبي صلى اللهُ عليه وسلم في الشيطان: “صدقك وهو كذوب” أي في هذا الأمر المعيّن، وإن كان هو في عامة هديه يكذب. أما عدم الاعتراف بالحق -مطلقاً- إلا إذا صدر عمن يحب فهذا جحود وبغي مذموم بنصوص الكتاب والسنة.

فبعض الناس لا يقبل الكلام إلا إذا خرج فقط من طائفته أو معظمه أو محبوبه، وإذا خرج عن غيرهم كذَّبوا به وبغى بعضهم على بعض، ولهذا يقع بينهم الخلاف والشقاق والنزاع، كما قال تعالى عن أهل الكتاب من قبلنا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ }، وقال {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فجحدت هذه الطائفة ما عند تلك من العلم والحق، وتلك جحدت ما عند هذه من العلم والحق، فاختلفوا وتنازعوا بالأهواء والتعصبات، ذكر نحو هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاقتضاء.