السائل: أريد أن أقوي نفسي في علم الحديث فأنا شغوف جدا بهذا العلم، فماذا تنصحني؟

الحمد لله وأشهد أنه الإله الحق وأشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

أما بعد،

فإن من أَجَلّ العلوم علم الحديث، وكلام الأئمة مستفيض في هذا.

وهذا العلم قسمان: الأول ما يتعلق بالأسانيد من مباحث، والثاني ما يتعلق بالمتون من الألفاظ والمعاني؛ والأول يُطلَق عليه علم الحديث دراية والثاني علم الحديث رواية.

واعلم أن العلم يتطلب طولَ زمن، واشتغالاً وعنايةً، واطلاعا واسعا وحفظا ثاقبا، خاصة ما يتعلق بالحديث، فإنه لا يصبر عليه إلا من وفقه الله، كما قال الزهري: لأبي بكر الهذلي: «يا هذلي، يعجبك الحديث؟» قلت: نعم، قال: «أما إنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 784)، لأنهن لا صبر لهن على العلم في الغالب، خلافا للرجال.

وقال بعضهم:

أَصِخ لن تَنَالَ العلْم إلا بستةٍ … سَأنبيكَ عن مَكنونها ببيانٍ

ذكاءٍ وحِرص وافتقار وِبُلغةٍ … وإرشاد أُستاذٍ وطول زمان

ذكره ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ط. دار هجر (ص. 705)

ومع ذلك، فاجتهَدَ العلماءُ في كتابة مختصرات تسهل الطريق على الطالب ليتعرف على مباحث الفن ويفهمها ويستوعب عامتها، ثم ليتوجه بعد ذلك بكليته إلى كتب الحديث الأصلية فيطلب منها الهدى والعلم، بدءاً بالموطأ والكتب السبعة، فما سواها.

والمختصرات كثيرة، قد يوجد في بعضها من الفوائد ما لا يوجد في غيرها، فعلى طالب العلم ألا يُفرغ وُسعه في جمع المئات من المختصرات ولما يتعرف على كتب الحديث نفسها، فهذا كمن يعتني بالفرع ويترك الأصل؛ والتحقيق في مباحث المصطلح إنما يأتي شيئا فشيئا. والمقصود: أن يكون اطلاعه على متون الأحاديث ورجالها موازيا لمدارسته لمباحث المصطلح حتى يتم له فهمها.

فمن أحسن كتب المصطلح: “اختصار علوم الحديث” لابن كثير رحمه الله، وهو على اسمه، مختصر، اختصره -كغيره- من كتاب “مقدمة علوم الحديث” لابن الصلاح، مع زيادة في التحقيق والتعليق والشرح والاختيار؛ وقد قرأناه مع “الباعث الحثيث” لأحمد شاكر رحمه الله أول أيام الطلب على الشيخ الفاضل طارق السبيعي حفظه الله.

ومن تلك الكتب المختصرة التي يجب الإكثار من مدارستها -كما صنعنا لا أقول مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً- ثلاثة كتب: الأول: “الموقظة في علم الحديث” للحافظ الذهبي رحمه الله، فإنها موقظة كاسمها، وهي من أجل الكتب التي تشرح لك مباحث هذا الفن، والثاني: “شرح العلل” لابن رجب رحمه الله، والثالث: “نزهة النظر في شرح نخبة الفكر” للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله.

فهذه أربعة كتب مختصرة جدا في مباحث المصطلح -هي أحسنها في نظري- لفهم الصحيح منها والمتفق عليه عند أهل الحديث.

نعم، هناك كتب أخرى أخصر منها، كـ”التقريب والتيسير” للنووي رحمه الله، وله شرح مختصر لشمس الدين السخاوي، وشرحٌ موسع للسيوطي اسمه “تدريب الراوي”. ومنها “التذكرة” لابن الملقن، ولها شرح مختصر جدا للسخاوي اسمه “التوضيح الأبهر لتذكرة ابن الملقن في علم الأثر”، وقد قرأناها كاملة مع الشيخ الفاضل أبي العباس عادل منصور آل باشا حفظه الله، فجزاه الله خيرا. والمقصود أن المختصرات في علم مصطلح الحديث كثيرة، ومطالعتها تزيد في الفهم والرسوخ في الفن.

فإن كنت ممن له شغف بهذا الجانب النظري من هذا الفن، فلك أن تتوسع وأن ترتقي إلى “مقدمة ابن الصلاح” وشروحها وحواشيها ومنظومها، ثم أن تنظر في المصادر الأصلية لهذه المختصرات، ككتب السؤالات والعلل والأفراد وكتب المصطلح المسندة كـ”معرفة علوم الحديث” للحاكم و”الإكليل” له، وكتب الخطيب البغدادي، ونحوها من الكتب مما يطول بذكرها الكلام.

لكن يجب أن تعلم أن هذا العلم، إنما هو من علوم الآلة، المقصود منها غيرها، وهو الوصول إلى معرفة كلام الرسول ﷺ ومعرفة ما ثبت منه مما لم يثبت ومعرفة معانيه، فيجب أن يوازي تعلمك لكتب “المصطلح” قراءة كتب الحديث ومتونها والتعرف على رجالها؛ وأولى تلك الكتب هو الموطأ للإمام مالك رحمه الله، لما فيه من علو الأسانيد، وشهرة رجاله، وصحة أكثره، خاصة وأن عامة أحاديثه المرفوعة الثابتة قد أخرجها من طريقه صاحبا الصحيحين. والمقصود أن التطبيق العملي لعلم الحديث النظري هو ممارسته على متون الحديث، فتنظر في الأسانيد وكتب الرجال وكتب التخريج.

ومثل الموطأ مما فيه علو الإسناد: مصنف عبد الرزاق الصنعاني، وثلاثيات الإمام أحمد، وثلاثيات البخاري.

وأما الكتب التي تعرفك بأحوال الرجال وأسمائهم ووفياتهم والرواة عنهم وشيوخهم وما قيل فيهم من الجرح والتعديل: فأربعة جوامع لا بد من النظر فيها: “تهذيب الكمال” للمزي رحمه الله، وهو أجل الكتب الجامعة في أحوال الرجال على الإطلاق، اختص بالكتب الستة، وهذبه الحافظ في “تهذيب التهذيب”، ذكر أشهر من روى عنهم الراوي، وعنه، وما في تهذيب الكمال من الجرح والتعديل، وزاد قليلا مما فات المزي من النصوص، وكثير منه قد أخذه من “ميزان الاعتدال” للذهبي. ثم قَرَّب -الحافظ ابن حجر- تهذيبه بذكر خلاصة حكمه في “تقريب التهذيب”. فهذه ثلاثة كتب لا يستغني عنها طالب الحديث، فإن جمعت معها “ميزان الاعتدال” للذهبي و”لسان الميزان” للحافظ ابن حجر تكون قد جمعتَ أهم الكتب الجامعة في الرجال، ولعله لم يغادرك من رجال الكتب المشهورة إلا القليل. فإن أردت ما هو أعلى منها، فارجع إلى المصادر الأصلية، وهي كثيرة جدا، أجلّها وأعلاها تاريخ البخاري الكبير والجرح والعديل لابن أبي حاتم وكلام أحمد بن حنبل وابن معين.

أما كتب التخريج التي تتعلم منها التطبيق العملي للفن فهي كثيرة، وفي ظني أعلاها كتب الألباني الخمسة: السلسلتين الصحيحة والضعيفة، والإرواء، وتخريجه لسنن أبي داود. ومن قبله البدر المنير لابن الملقن، والتلخيص الحبير لتلميذ ابن الملقن الحافظ ابن حجر. فهذه أجل الكتب وأشهرها. نعم، هناك كتب في التخريج لا تقل أهمية، وهي مصادر تلك، ككتب العلل ككتاب العلل للدارقطني والعلل لابن أبي حاتم، لكنها تختلف عما استقر عليه علم التخريج اليوم، وكـ”بيان الوهم والإيهام” لابن القطان الفاسي أو تخريجات ابن دقيق العيد أو غيرها، لكن ما تقدم لم يَخْلُ من ذكر فوائد منها، ففيها الكثير والعلم الغزير.

ولا بد للمخرج من التعرف على كتاب “تحفة الأشراف” للمزي ومدارسته وممارسته، وهو مختص بأطراف الكتب الستة. ومثله “إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة” للحافظ ابن حجر في أطراف المسانيد العشرة، طبع بمجمع الملك فهد رحمه الله بالمدينة النبوية بتحقيق د. ناصر زهير الناصر وفقه الله. وهذان الكتابات صار يجهلهما كثير من طلبة الجامعات الإسلامية، فضلا عن غيرهم.

فإذا أحس الطالب من نفسه القدرة على استخراج الحديث من مظانه، ومعرفة الرجال وأحواله، فليشرع بتخريج كتاب من الكتب المعتبرة كـ “الأربعون النووية” و”بلوغ المرام” لابن حجر، تجربةً لنفسه واختباراً لمعرفته، ولا يفكر بنشره ما يكتب ويبحث، وليحتفظ به لنفسه حتى تثبت قدمه في العلم ويرسخ فيه، فإن الخطأ في أول الطريق محتمل جدا، فلا يثبت وينفي من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بغير علم ولا ثبت.

وعلى كل حال، فالحديث وعلوم الحديث بحر لا ساحل، فيقدم الأولى فَالأولى، فيدمن النظر في الصحيحين ويتعرف على رجالهما، ثم ينظر في السنن الأربعة ومسند الإمام أحمد، ويتعرف على مناهجهم، وما يمتاز ويختص كل راوٍ وكل كتابٍ عن الآخر، وليُكثر من النظر في متون الحديث.

وليكن همه معرفة مراد الله تعالى من كلامه، فالسنة تشرح القرآن وتفسره، وتدل عليه وتبينه، فليصبر ثم ليصبر على تعلم الحديث ومعانيه، وأن يعتني بالعقيدة السلفية الأثرية عقيدة أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة الفرقة الناجية.

هذا جواب مختصر، ينتفع به المبتدي، ولا يخلو من تذكرة للمنتهي.

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.