الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا مزيدا إلى يوم الدين،
كلما وجدوا مدخلا للطعن في أهل السنة ولجوه، وأشهروا ما ظنوه عيبا وفضيحة، وأذاعوه بين الناس، ليس لأنه حق في نفسه وإنما تشويهٌ لطريق أهل السنة ومعتقدهم؛ وأهل السنة بحمد الله لا يتأثرون -ولا ينبغي لهم- بنعيق الناعق ولا بنهيق ال.. وشخيره! فهم على قدم راسخة في دينهم ودنياهم، ولا ضير لأهل السنة -أبدا- بمكر من يمكر بهم، {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فالله معهم بنصره وتأييده وكلاءته.
ثم إننا منهيون عن السعي لإرضاء الناس والركون إليهم {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} وقال {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} في الآية ذم الركون إلى من لا يرضى الله عنه! وإنما الواجب الصدع بالحق ما أمكن، وذاك شيء فيه حرارة وله ثقل، كما قال تعالى {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} وقال صلى الله عليه وسلم: ” يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر “[1]. وروي عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما: «الْحَقُّ ثَقِيلٌ مَرِيءٌ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَبِيءٌ، وَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ، تُورْثُ حُزْنًا طَوِيلًا.»[2] وقال الذهبي رحمه الله: الصَّدعُ بِالْحَقِّ عَظِيْمٌ، يَحْتَاجُ إِلَى قُوَّةٍ وَإِخْلاَصٍ، فَالمُخْلِصُ بِلاَ قُوَّةٍ يَعجِزُ عَنِ القِيَامِ بِهِ، وَالقَوِيُّ بِلاَ إِخلاَصٍ يُخْذَلُ، فَمَنْ قَامَ بِهِمَا كَامِلاً، فَهُوَ صِدِّيْقٌ، وَمَنْ ضَعُفَ، فَلاَ أَقَلَّ مِنَ التَّأَلُّمِ وَالإِنكَارِ بِالقَلْبِ، لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إِيْمَانٌ فَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ[3].
ولأجل هذه الأمانة الثقيلة التي حملها أهل السنة، خاضوا معارك طاحنة في عدد من الميادين العلمية:
فمعركة في الذب عن العقيدة الصافية الواضحة النقية التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي العقيدة السلفية السنية الأثرية، عقيدة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة التي قال فيهم: “هم على مثل ما أنا عليه وأصحابي.”[4] ومعركة في الذب عن النصوص القرآنية وتفسيرها، ومعركة في ما ثبت من المرويات الحديثية.
وبالجملة هي معارك بين أهل السنة وكل طريق خالف طريق الصحابة، سواء كانوا ممن انحرف في الأمور العلمية: كبدع الجهمية والمعتزلة القدرية والأشعرية والماتوريدية، أو البدع العملية: كبدع التمذهب العصبي، والنهي عن اتباع غير المذاهب الأربعة، أو بدع الصوفية، أو بدع الخوارج والتكفيريين، والتي منها: بدع التنظيمات السياسية العصرية “خارجية عصرية”! وغير ذلك كثير، وكما قال ابن القيم رحمه الله: “والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول، وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي؛ فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق[5]“
ومن مكر أهل الأهواء في زمننا هذا خاصة: أن رموا أهل السنة بعدم الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم، زعموا لأن أهل السنة خذلوه ولم ينصروه على من تنقص منه! والحقيقة أنهم ما رموا أهل السنة بما رموهم به وبما هم برآء منه إلا حسدا من أهل السنة لأنهم متمسكون أبدا باعتقادهم، لا يحيدون عنه، ولا يلعبون به، لا يعطلونه، ولا يأولون ما ورد فيه، لا يتلونون على حسب المواقف، ولا يتغيرون على حسب مطالب الخلق، فهم أعرضوا -ديانةً- عن الخوض في معارك أهل الأهواء الطاحنة المفتعلة، والتي اختلقوها أولا وكانوا من أسبابها ثانيا، وثالثا هي أصلا معارك لا يقرها شرعنا ولم يخضها سلفنا! فليس من صفات أهل السنة أنهم كلما سمعوا ناعقا يدعوهم لشيء أهرعوا إليه وأسرعوا كالبهائم، وإنما يزنون كل عمل وموقف يتطلب عملا منهم بميزان الكتاب والسنة، والهدي الذي كان عليه الصحابة والأئمة! قال تعالى { وخضتم كالذي خاضوا ..} وقال في أصحاب الجحيم {وكنا نخوض مع الخائضين}.
ثم انظر في سيرة القوم -أهل السنة- بإنصاف وعدل، كيف نذروا أعمارهم وأفنوها في الذب عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وسنته؛ فلو نظرتَ في سيرة أئمتهم القدماء فضلا عن المعاصرين لأشفى واشتفى، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك النظر في صنيعهم اليوم وذبهم عن السنة المحمدية والعقيدة السلفية؟!
فمن الأمثلة المعاصرة لأهل السنة، إمامنا في هذا الزمن: محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله؛ أفنى عمره في الذب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونفي المكذوب وما لم يثبت عنه! فخرَّج وصحح وضعف وبيَّن، وحث طلبة العلم -كهولا كانوا أو شبانا- على ضرورة تصفية الأحاديث مما لم يثبت، وتربية المسلمين على الثابت الصحيح. وله مقولات كثيرة تدل على هذا النهج السديد، قال رحمه الله: “فحسبي أنني معتقد إن ذلك هو الطريق الأقوم، الذي أمر الله تعالى به المؤمنين، وبيَّنه نبينا محمد سيد المرسلين، وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة – الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم جمهور المسلمين -، وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة، والرجوع إليها، وترك كل قول يخالفها، مهما كان القائل عظيماً؛ فإن شأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم، وسبيله أقوم. ولذلك فإني اقتديت بهداهم، واقتفيت آثارهم، وتبعت أوامرهم بالتمسك بالحديث؛ وإن خالف أقوالهم، ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في نهجي هذا النهج المستقيم، وإعراضي عن التقليد الأعمى. فجزاهم الله تعالى عني خيراً.”[6].
فهذا إمام من أئمتنا، به -وبهم قبله- اقتدينا، وكلنا تَبَعا لسلفنا رضوان الله عليهم!
فهذا جهدٌ لواحد من أئمة الحديث والسنة، وما أكثر ما كان يردد هذا البيت:
أهلُ الحديث هُمُ أهلُ النبيّ وإنْ … لم يَصْحبوا نَفْسَهُ أنفاسَهُ صَحِبوا
فإذا أضفت إلى جهده: جهود مجموع أهل الحديث، نظرتَ في:
• عشرات الردود على تحريف من يحرف القرآن والسنة وما عليه الصحابة، سواء في الاعتقاد، أو التفسير، أو الفقه، أو أي باب من أبواب العلم الشرعي.
• مئات الكتب في علوم الحديث النبوي، والذب عنها وعن أصول الحديث! ولو ذهبت أسردها لطال المقال.
• كلام لا يعد ولا يحصى في الحض على تنقيح الأحاديث، وتمييز صحيحها من ضعيفها!
• كلام لا يعد ولا يحصى في التحذير من نسبة الحديث غير الثابت إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
• كلام لا يعد ولا يحصى في وجوب الرجوع إلى السنة المطهرة في تفسير القرآن، ومعرفة الأحكام.
• كلام لا يعد ولا يحصى في وجوب التفقه في السنة والإعراض عن كل قول ورأي ومذهب وطريقة تخالفها.
• تعمير مجالسهم بمدارسة الحديث النبوي، بدءا من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسائر كتب الحديث، إلى أحاديث الأحكام والتفقه فيها.
• إعلان الحرب الضروس على المتمذهبة المعرضين عن التمذهب بمذهب الصحابة، المؤثرين لأقوال الأربعة ومتأخريهم على من سواهم، حتى لو كانوا أقرب إلى الحق منهم.
• دعوتهم المستمرة لاقتفاء آثار أصحاب رسولهم صلى الله عليه وسلم علما وعملا وزهدا وأدبا وخلقا!
بل لا تخلو عنايتهم في علم من علوم الشريعة إلا وعلم الحديث ونصوصه ظاهر فيها.
أفلا يدل كل هذا -وأضعاف مثله متضاعفة-: على غيرتهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟! والله ما كان ولا يكون مثلهم!
فهذه علومهم وأوقاتهم كلها في المنافحة عنه صلى الله عليه وسلم، ولسان حالهم كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
فإن أبي ووالده وعرضي … لعرض محمد منكم وقاء
وكتب علي السالم
الثاني من جمادى اللآخرة 1442 ه
الموافق 14/ 2/ 2021
[1] رواه أحمد والترمذي وصححه لشواهده الألباني رحمهم الله كما في الصحيحة (2/ 645) برقم: 957.
[2] رواه ابن المبارك وهناد وأبو نعيم، وفي الإسنادين ضعف. وروي نحوه عن حذيفة بن اليمان، فلعله يتقوى بمجموع الطرق. وروي عن الحسن البصري نحوه. وهو كلام حسن صحيح.
[3] سير أعلام النبلاء ط الرسالة (11/ 234).
[4] السلسلة الصحيحة للألباني برقم: 204.
[5] إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (2/ 93).
[6] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم -الأصل- (1/ 23).