الواهم في محبة الصحابة رضي الله عنهم!

نعم قد ترى أنك معظم للصحابة رضي الله عنهم، تعتقد فيهم ما عليه أهل السنة والجماعة، لكن مع كثرة الشبه اليوم خاصة، فيمن يتناول سيرة الصحابة رضوان الله عليهم على أنها رواية تاريخية، العلم بها والتعرف على ما جرى فيها لا يؤثر على العقيدة، بل يجب النظر فيها للاستفادة منها: وقع كثير من الناس في الطعن فيهم من حيث يشعر أو لا يشعر. وكثير ممن يلقي بسمعه، ويصغي بأذنيه وقلبه إلى مجاهيل “متدكترة” وغير متدكترة أزرى بأولئك القوم الذين اختارهم الله تعالى -ولم يخترك أنت ولا من قبلك ولا من بعدك- لصحبة نبي ﷺ! فبداية من سيد قطب، إلى معظميه كصلاح الدين الخالدي، والصلابي، إلى عدنان إبراهيم وحسن فرحان المالكي وغيرهم كثير، نسأل الله تعالى أن يعاملهم بما يستحقون.

فشواهد النهي عن الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أنفسهم، وأقوال أئمة السلف من التابعين فمن بعدهم ممن له لسان صدق في الأمة: كثيرة جداً، حتى كانت من أعظم أصول أهل السنة والجماعة: الترضي عن الصحابة وذكر محاسنهم ونشر فضائلهم والحث على اتباعهم، والنهي والزجر والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم وكل خصلة ليس فيها الثناء عليهم فالواجب الكف عنه، “فمن لم يكرمهم فقد أهانهم” -كما قال الآجري رحمه الله-.

والمقصود أن النصوص كثيرة، اخترت منها ثلاثة:

الأول: أثر موقوف، رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 405) برقم 32415 وأحمد في فضائل الصحابة وابن أبي عاصم في السنة وابن ماجه 162 عن وكيع، عن سفيان، عن نسير بن ذُعلوق، قال: سمعت ابن عمر، يقول: «لا تسبوا أصحاب رسول الله ﷺ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره». ورواه من طريق سفيان: اللالكائي (7/ 1323).

وهذا إسناد صحيح. وكيع وسفيان إمامان، ونسير هذا وثقه ابن معين وأبو حاتم الرازي ويعقوب بن سفيان وابن حبان والدارقطني والعجلي وابن عبد البر. وقال ابن حجر: صدوق، لم يصب من ضعفه. والذي ضعفه ابن حزم وعبد الحق، وهما متأخران، لكن الراوي إلى التوثيق أقرب، فابن معين متعنت في الرجال، وأبو حاتم قال صالح الحديث.

وروى اللالكائي (7/ 1317) بسند ضعيف عن ابن عمر -رفعه-: لا تذكروا مساوئ أصحابي فتختلف قلوبكم عليهم، واذكروا محاسن أصحابي حتى تأتلف قلوبكم عليهم). ونحو هذا قد رواه الآجري في الشريعة (5/ 2492) عن العوام بن حوشب -الثقة الثقة كما قال أحمد- قال: اذكروا محاسن أصحاب محمد ﷺ تأتلف عليه قلوبكم ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم “

الثاني، كلام طويل أحد أئمة السنة في كتابه العظيم النفع، كتاب الشريعة لأبي بكر الآجري (5/ 2485)، والمحققة لعصام موسى ص. (799)، وفيه تكلم على من يتناول سيرة الصحابة على أنها روايات تاريخية يزعم أنه يريد الاستفادة منها، نقلته بطوله لنفاسته، فلا تستثقل طوله، فكان من جوابه:

[باب] ذكر الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله تعالى عليهم أجمعين. قال محمد بن الحسين رحمه الله: ينبغي لمن تدبر ما رسمناه من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين أن يحبهم ويترحم عليهم ويستغفر لهم , ويتوسل إلى الله الكريم بهم ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا , ولا يذكر ما شجر بينهم ولا ينقر عنه ولا يبحث , فإن عارضنا جاهل مفتون قد خطئ به عن طريق الرشاد فقال: لم قاتل فلان لفلان ولم قتل فلان لفلان وفلان؟ . قيل له: ما بنا وبك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا اضطررنا إلى علمها. فإن قال: ولم؟ قيل له: لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم , وكانوا أهدى سبيلا ممن جاء بعدهم لأنهم أهل الجنة , عليهم نزل القرآن وشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه وشهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة والأجر العظيم , وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير قرن. فكانوا بالله عز وجل أعرف وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة ومنهم يؤخذ العلم وفي قولهم نعيش , وبأحكامهم نحكم وبأدبهم نتأدب ولهم نتبع وبهذا أمرنا. فإن قال: وإيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم والبحث عنه؟ . قيل له: ما لا شك فيه وذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا , وعقولنا أنقص بكثير ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق ونتخلف عما أمرنا فيهم. فإن قال: وبم أمرنا فيهم؟ . قيل: أمرنا بالاستغفار لهم والترحم عليهم والمحبة لهم والاتباع لهم , دل على ذلك الكتاب والسنة وقول أئمة المسلمين , وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم , قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصاهرهم وصاهروه , فبالصحبة يغفر الله الكريم لهم , وقد ضمن الله عز وجل في كتابه أن لا يخزي منهم واحدا وقد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة والإنجيل , فوصفهم بأجمل الوصف ونعتهم بأحسن النعت , وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم , وإذا تاب عليهم لم يعذب واحدا منهم أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون. فإن قال قائل: إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالما بما جرى بينهم فأكون لم يذهب علي ما كانوا فيه لأني أحب ذلك ولا أجهله. قيل له: أنت طالب فتنة لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك ولو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه واجتناب محارمه كان أولى بك. وقيل: ولا سيما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة. وقيل له: اشتغالك بمطعمك وملبسك من أين هو؟ أولى بك , وتكسبك لدرهمك من أين هو؟ وفيما تنفقه؟ أولى بك. وقيل: لا يأمن أن يكون بتنقيرك وبحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك فتهوى ما لا يصلح لك أن تهواه ويلعب بك الشيطان فتسب وتبغض من أمرك الله بمحبته والاستغفار له وباتباعه فتزل عن طريق الحق وتسلك طريق الباطل. فإن قال: فاذكر لنا من الكتاب والسنة وعمن سلف من علماء المسلمين ما يدل على ما قلت لترد نفوسنا عما تهواه من البحث عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم. قيل له: قد تقدم ذكرنا لما ذكرته مما فيه بلاغ وحجة لمن عقل , ونعيد بعض ما ذكرناه ليتيقظ به المؤمن المسترشد إلى طريق الحق: قال الله عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا , يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة , ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29] . ثم وعدهم بعد ذلك المغفرة والأجر العظيم , وقال الله عز وجل: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} [التوبة: 117] وقال عز وجل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم} [التوبة: 100] إلى آخر الآية , وقال عز وجل: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} [التحريم: 8] الآية , وقال عز وجل: {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110] الآية. وقال عز وجل {لقد رضي الله عن المؤمنين} [الفتح: 18] إلى آخر الآية , ثم إن الله عز وجل أثنى على من جاء بعد الصحابة فاستغفر للصحابة وسأل مولاه الكريم أن لا يجعل في قلبه غلا لهم , فأثنى الله عز وجل عليه بأحسن ما يكون من الثناء؛ فقال عز وجل: {والذين جاءوا من بعدهم} إلى قوله: {رءوف رحيم} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين إلا النبيين والمرسلين , واختار لي من أصحابي أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا , فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير واختار أمتي على سائر الأمم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح» . روي هذا عن الحسن , عن أنس , عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فكان الحسن إذا حدث بهذا يقول: قد ذهب ملحنا فكيف نصلح؟ . وقال ابن مسعود: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه , وبعثه برسالته , ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد , فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون على دينه قال محمد بن الحسين رحمه الله: يقال لمن سمع هذا من الله عز وجل ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت عبدا موفقا للخير اتعظت بما وعظك الله عز وجل به , وإن كنت متبعا لهواك خشيت عليك أن تكون ممن قال الله عز وجل {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50] وكنت ممن قال الله عز وجل {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] . ويقال له: من جاء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يطعن في بعضهم ويهوى بعضهم ويذم بعضا ويمدح بعضا فهذا رجل طالب فتنة , وفي الفتنة وقع؛ لأنه واجب عليه محبة الجميع والاستغفار للجميع رضي الله عنهم ونفعنا بحبهم , ونحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع وتدع البحث والتنقير عما شجر بينهم. ثم روى الآثار في ذلك.

ثم قال في الباب الذي يليه (5/ 2495) وفي النسخة المحققة لعصام موسى ص. 803:

باب ذكر اللعنة على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن الحسين رحمه الله: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في آخر الزمان أقوام يلعنون أصحابه , فلعن صلى الله عليه وسلم من لعن أصحابه أو سبهم فقال: «من لعن أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ويقال: الصرف الفرض , والعدل التطوع , ثم أمر جميع الناس أن يحفظوه في أصحابه وأن يكرموهم. قال محمد بن الحسين رحمه الله: فمن لم يكرمهم فقد أهانهم , ومن سبهم فقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحق اللعنة من الله عز وجل , ومن الملائكة , ومن الناس أجمعين , وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم».

قال محمد بن الحسين رحمه الله: لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خالف الله ورسوله , ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين , ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا لا فريضة ولا تطوعا , وهو ذليل في الدنيا , وضيع القدر , كثر الله بهم القبور , وأخلى منهم الدور. انتهى.

كلام نفيس ينبغي أن تكرر قراءته، وتعلمه أبناءك وأهلك.

النقل الثالث:

وفيه النهي عن الاشتغال بحوادث الجمل وصفين مما فيه الفتن، قال ابن بطة العكبري في الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة (ص. 247):

النهي عن الخوض في أحداث الفتنة الكبرى فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وأنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم ولا ينظر في كتاب صفين والجمل ووقعة الدار وسائر المنازعات التي جرت بينهم ولا تكتبه لنفسك ولا لغيرك ولا تروه عن أحد ولا تقرأه على غيرك ولا تسمعه ممن يرويه. فعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة من النهي عما وصفناه، منهم. حماد بن زيد ويونس بن عبيد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن ادريس ومالك بن أنس وابن أبى ذئب وابن المبارك وشعيب بن حرب وأبو اسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وعبد الوهاب الوراق كل هؤلاء قد رأوا النهي عنها والنظر فيها والاستماع إليها وحذروا من طلبها والاهتمام بجمعها. وقد روي عنهم فيمن ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متفقة المعاني على كراهية ذلك والإنكار على من رواها واستمع إليها. انتهى.

وأصل هذا الكلام تجده منقولا بمعناه عن الإمام أحمد فيما رواه الخلال في السنة.