قلوبنا تحيا والله بإثبات العلو لله تعالى

أهل السنة يثبتون ما جاء في القرآن والحديث الصحيح من صفات الله تعالى، لا يتفلسفون، ولا يتحذلقون، ولا يعطلون، ولا يعارضون، ولا يحرفون، ولا يتأولون، إنما هو التسليم وترك الهوى، وإثبات ما في الكتاب والسنة “من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل”!

فإذا قال الله تعالى {استوى على العرش} وقال {الرحمن على العرش استوى} قلنا كما قال بأنه: استوى على العرش.

لا يجوز لنا أن نقول استواء كاستوائنا، كما لا يجوز أن نقول يد كأيدينا، فهذا من التشبيه[1]!

كما لا يجوز لنا أن ندخل في كيفية الاستواء!

ولا يجوز لنا أن نحرف معنى الاستواء، بمعنىً يخالف ظاهر كلامه تعالى، ثم نوهم أنفسنا أن هذا تأويل محمود وليس بتحريف! كما فسره الأشاعرة بالاستيلاء! هذا تحريف للوحي، وبدعة من القول، لم يقله الرب تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة رضوان الله عليهم! بل ولا حتى التابعون يقولون هذا، كما سيأتي نقل إجماعهم، ولا تعرفه العرب في كلامها، ولا تقره العقول السليمة الصريحة؛ فلأي شيء يصار إلى مثل هذا التحريف؟!

آلعقل المقدس المترعرع في أحضان فلسفة اليونان يعلمنا كيف نفهم السنة والقرآن، أم هي العصبية للمذاهب والرجال؟

وهم معترفون أن هذا لم ينقل إلينا نقلا صحيحا ثابتا عن الرسول والصحابة والسلف، فكيف استجازوا أن يقولوا قولا محدثا؟!

ويقال لهم -بناء على مذهبهم في التعطيل والتأويل-: إما أن يكون الرسول عَلِمَ المعنى من آيات الصفات، أو لم يَعْلمه؛ فإن قلتم علِمه، فيقال: إما أن تقولوا بأنه نقله للصحابة لكنهم كتموه خيانة منهم للأمة الإسلامية إلى قيام الساعة، أو تقولوا علِمه الرسول لكنه خان الرسالة فلم يُعَلّمنا ولم يبلغنا عقيدتنا في الله! وكلاهما -قطعا- باطل فظيع شنيع، يؤديان إلى الطعن في الدين والإلحاد في الله والشرع المبين! ولازم قول هؤلاء أن الله ابتلانا بالنصوص، بأن خاطبنا بشيء لم يُرِد منا ولا لأحد الاستهداء بكلامه، وأن الهداية بمعرفته إنما تكون باستخراج المعاني الصحيحة بعقولنا، لا بكلامه وكلام رسوله، وأن الآيات التي فيها أسماء الله وصفاته إنما هي امتحان واختبار شبيه بالألغاز، وليست هداية واضحة مبينة! وهذا الكلام أظهر في الباطل وأشنع للفطر من الجواب عنه! وهؤلاء هم المحرفة المعطلة، أهل التأويل للنصوص!

وإن قلتم فرارا من لازم قولكم المتقدم: بل لم يعلمه الرسول، ولا صحابة الرسول، ولا أحد من العالمين، ولم يرد منا معرفة شيء من ذلك! ولن أورد ما ظننتم أنها أدلة لكم صيانة لأذن السامع وعين القارئ، لكن من أول وهلة تتبادر إلى ذهن كل سامع لقولكم هذا، أنه طعن في كلام الله تعالى، وهؤلاء هم أهل التجهيل للسلف، وقد فاقوا أولئك المحرفة في التلبيس، لأنهم ألصقوا هذا المذهب للسلف الذين اتفقت كلمة أهل السنة على الثناء عليهم، وهؤلاء كمن يقول نؤمن بالاستواء، ولكننا لا نعرف معنى الاستواء، بل ولا حتى السلف من الصحابة والتابعين، بل ولا حتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قبلنا يعرفون معنى الاستواء، بل هو شيء مجهول لا يعلمه إلا الله! وهذه والله البلية العظمى، فمع ما فيه من التعطيل لكلام الله تعالى، ففيه رمي الرسول وخير القرون بالجهل في كلام الرب تعالى!

يقول ابن تيمية رحمه الله: ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب أصول الدين والكلام والعلوم العقلية والحكمة يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول، أو أن الرسول لم يقل مثل هذا، واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين، وأنه يشتمل علي العلوم الكلية والمعارف الإلهية , والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية ـ صار كثير منهم يقول: إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين، أو لم يبين أصول الدين، ومنهم من هاب النبي، ولكن يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك. ومَن عَظَّمَ الصحابةَ والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقي حائراً كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم؟ ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلي غيرها؟ [درء تعارض العقل والنقل (1/ 24)]. هذا ما ينتهي إليه هؤلاء المعطلة من الجهمية والأشعرية المتحيرة!

أما أهل السنة فأنعموا بحلاوة الإيمان، فأثبتوا صفة الاستواء وسائر نصوص الصفات من الكلام وغيره على ظاهر ما جاء في نصوص القرآن والحديث.

قال التابعي أبو العالية: “استوى إلى السماء: ارتفع”، علقه البخاري، ووصله ابن جرير كما في الفتح، وعن مجاهد استوى: “علا على العرش”، علقه البخاري، قال ابن حجر: وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه. [الفتح 17/393] والبخاري رحمه الله تعالى أورد هذه الآثار في باب {وكان عرشه على الماء} من كتابه الصحيح في كتاب التوحيد، وأخرج فيه عددا من الأحاديث والذي منها [7420] قول زينب أم المؤمنين رضي الله عنها “زوجني الله تعالى من فوق سبع سموات.” ومنها حديث [7422] “إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه [وهذا يوضح أن الاستواء معناه العلو والارتفاع على العرش] إن رحمتي سبقت غضبي.” ليبين ما عليه أهل السنة من إثبات العلو، فرحمه الله رحمة واسعة!

قال ابن القيم رحمه الله:

فلهم عبارات عليها أربع … قد حصلت للفارس الطعان

وهي “استقر” وقد “علا” وكذلك … “ارتقع” الذي ما فيه من نكران

وكذاك قد “صعد” الذي هو أربع … وأبو عبيدة صاحب الشيباني

يختار هذا القول في تفسيره … درى من الجهمي بالقرآن

والأشعري يقول تفسير استوى … بحقيقة استولى من البهتان

هو قول أهل الاعتزال وقول … أتباع لجهم وهو ذو بطلان

[نونية ابن القيم (ص: 87)]

فاستواء الله تعالى على عرشه يعني: علا فوق عرشه، والعرش سقف المخلوقات، كما دلت عليه نصوص الأحاديث، قال ابن تيمية رحمه الله: “فإن الحديث يدل على أن الله فوق العرش ويدل على إحاطة العرش كونه سقف المخلوقات”  مجموع الفتاوى (25/ 198)، وقال بعد أن ذكر الأحاديث فيه: “فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها وأنه مقبب وأن له قوائم.” مجموع الفتاوى (5/ 151). ونحوه قال ابن كثير في تفسيره، وقال ابن عثيمين رحمه الله: {ذو العرش} أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها.. هو سقف المخلوقات كلها. [تفسير العثيمين: جزء عم (ص: 140)] والمقصود أن استواء الله على العرش يدل على إثبات العلو لله الواحد القهار.

فهذا من حيث معاني لفظ الاستواء، ومعاني العرش، وأما الإجماع فقد قال الإمام الأوزاعي، يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته جل وعلا.

رواه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 304) برقم: 865. وصححه ابن تيمية وابن القيم والذهبي، وأقرهم الألباني رحمه الله في حاشية مختصر العلو ص. 138. وقال الذهبي في كتابه الآخر “العرش” (2/ 223): ورواته أئمة ثقات. وقال ابن حجر في فتح الباري ت. الفريابي (17/396): أخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي، فذكره. وهو كما قال رحمهم الله.

وهذا الإجماع الذي نقله الأوزاعي قد نقله غير واحد مثله، كالترمذي وابن عبد البر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية ط. مجمع الملك فهد (5/ 69): فإن الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش بائن من خلقه لا يحصيهم إلا الله.

وقال ابن القيم رحمه الله في أدلة إثبات “العلو” ناقلا الإجماع:

هذا وسادس عشرها إجماع أهـل … العلم أعني حجة الأزمان

من كل صاحب سنة شهدت له … أهل الحديث وعسكر القرآن

لا عبرة بمخالف لهم ولو … كانوا عديد الشاء والبعران

أن الذي فوق السموات العلى … والعرش وهو مباين الأكوان

هو ربنا سبحانه وبحمده … حقا على العرش استوى الرحمن

[نونية ابن القيم (ص: 86)]

وكما أجمعوا على إثبات صفة العلو والاستواء على العرش على ظاهر القرآن، أجمعوا على ذم من كان على مذهب التعطيل من الجهمية والمعتزلة، وأغلظوا في القول وشنعوا عليهم وصرخوا بهم في البلاد والديار زمنا بعد زمن، حتى يكون الحق ظاهرا واضحا لمن أراد التمسك به!

فهبوا يا أهل السنة إلى بيان عقيدتكم، فما أحوج الناس لسماع الحق ومعرفة العقيدة الصافية التي كان عليها الصحابة، والقرون الفاضلة! وهذا في إثبات صفة العلو وسائر الصفات العليا، ومنها: صفة الكلام وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولنا في هذه الصفة مقال قادم بإذن الله.

هذه تذكرة الإطالة والتكرار فيها له بالغ الأهمية! ولنا عودة فيها بإذن الله! وإنما نمتثل قوله تعالى {فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.


[1] نقل الترمذي في جامعه (2/ 44) عن ابن راهويه: قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَالَ: يَدٌ كَيَدٍ، أَوْ مِثْلُ يَدٍ، أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَإِذَا قَالَ: سَمْعٌ كَسَمْعٍ، أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَهَذَا التَّشْبِيهُ.