مآلك إن تعبدتَ بالبدعة !

كيف يهدأ بال صاحب السنة وهو يعلم أن مآل البدعة إلى الكفر والإلحاد والزندقة؟! كيف يهدأ له بال وهو يرى عوام المسلمين تسوقهم “رؤوس الشياطين” إلى سبل البدع والضلالات باسم الدين والخير بل والغيرة على دين الله؟ وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على تحقق هذا، وكلام السلف في التحذير من أهل البدع ومكرهم وخداعهم كثير، وهذا واقع مشاهَد، لا يحتاج إلى كلفة في الإثبات.

واعلم أن هؤلاء الضلال يحتجون بالأدلة، إلا أنهم يأخذون المتشابه منها ويتركون المحكم الواضح البين كما قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يعني يحتج بكلام الله عز وجل على بدعته وضلاله، لكنه يترك النص الواضح البين الذي يدحض بدعته! ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: قد سماهم الله عز وجل، فإذا رأيتموهم فاحذروهم.[1] يعني بَيَّنَ لنا الله تعالى في هذه الآية وصْفَهم في اتباع المتشابه يريدون بذلك إضلال الخلق وتحريف نص القرآن ليوافق أهواءهم! فلا تغتر برجل يحتج بنص قرآني متشابه ويترك الواضح المحكم البيّن.

وقال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، قال فيها صلى الله عليه وسلم عن السبل المخالفة لصراط الله المستقيم: “وَهَذِه السبل لَيْسَ مِنْهَا سَبِيل إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهِ.”[2]

فالواجب اتباع صراط الله المستقيم الذي كان عليه أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن تزن كل طريق ومذهب ورأي وقول -ولو من معظَّم- بميزان الكتاب والسنة وهدي السلف، فمن أعظم ما يعين على التمييز بين النصوص الشرعية والأقوال البدعية: معرفة ما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، كما دلت النصوص الكثيرة على الثناء عليهم وعلى طريقهم، والثناء على من اتبعهم بإحسان كما في قوله {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، وهذا عند أهل السنة واضح بَيِّن: أن اتباع الصحابة من السابقين الأولين مُرَغَّبٌ فيه -لا عنه-، بل هو واجبٌ مُتَعَيِّن، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصول السنة عندنا اتباع ما عليه أصحاب محمد ﷺ والاقتداء بهم. قالوا والسبب في تعيين الإمام أحمد للصحابة في هذا الموضع، مع أن الرسول ﷺ أولى منهم هو لأنهم هم الميزان في صحة اتباع الرسول ﷺ من عدمه، فكل من تَدَيّن باتباع خير القرون فهو متبع للرسول ﷺ، ولا يلزم العكس، فقد يزعم اتباع الرسول لكنه يخالف خير القرون، فقد يتبعهم وقد لا يتبعهم مع زعمه أنه محب لهم، فكم خرجت فرق ضالة تزعم أنها تدعو إلى الكتاب والسنة ثم أصول مذهبهم -فضلا عن فروعه- على خلافهما. كما كان المتكلمون يطلقون على أنفسهم -أهل السنة- وهم أبعد عن السنة وأهلها! والعجيب أنهم يعترفون بذلك، وهذا من تناقضاتهم الكثيرة، فيقولون مذهب (السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم)، يعني يُقِرّون على أنفسهم أنهم في وادٍ والسلف في وادٍ آخر. وهذا قد صرح اللقاني في شرحه على الجوهرة ص. 56، مع تناقضه العجيب وافترائه على السلف.

 وإذا استجاز المتعبد أن يعبد الله بالعقل والرأي الذي هو أساس البدعة، فإن هذا المسلك ينتهي بصاحبه إلى الكفر والإلحاد، كما قال السلف، فالبدعة بداية الطريق والزيغ والضلال نهايته، وقال الله تعالى {كل بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} وقال {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ونحوها كثير.

وقال صلى الله عليه وسلم: “وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”.[3]

وفي الأثر عن ابن مسعود حينما رأى قوما متحلقين في المسجد يَعُدُّون أذكارَ اللهِ تعالى من التسبيح والتحميد والتكبير لا بأناملهم على ثبت بالسنة[4]، وإنما بالحصى، قال لهم: ” إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد ﷺ أو مفتتحو باب ضلالة”. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: “وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله ﷺ حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. قال الراوي عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.[5]

فذكر الراوي أن غالب هؤلاء الذين تعبدوا على جهل وعلى خلاف السنة واستعملوا العقل والاستحسان في تعبدهم آل بهم الأمر إلى أن قاتلوا الصحابة يوم النهروان. وتأمل فقه ابن مسعود العميق رضي الله عنه فنزّل حديث النبي ﷺ في الخوارج المارقة على هؤلاء الذين استصغروا التعبد بالبدعة في الأذكار.

فانظر -رحمك الله تعالى- كيف يستدرج الشيطان من يتعبد بعبادة خفية سهلة صغيرة في بداية الأمر إلى أن يخرجه عن الصراط المستقيم!

وما أحسن ما قال الإمام البربهاري رحمه الله: ” واحذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيرا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيرا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان به فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام.”[6]

ولهذا كان يقال: “البدعة بريد الكفر” يعني تأخذ بالمتعبد بالبدعة منها إلى ما هو أشد، ثم منها إلى ما هو أشد، ثم لا يزال هكذا دواليك حتى يخرج من الصراط المستقيم!

ومن هذا ما آل بكثير من أرباب التصوف إلى القول بوحدة الوجود، والاتحادية، والحلولية ونحوها من الزندقة والإلحاد!

وما آل بأرباب المقالات والكلام إلى إنكار علو الله تعالى على خلقه ورؤيته وكلامه واسوائه على عرشه!

وما آل بالقدرية من الغلو وجحود علم الله تعالى!

وما آل بالخوراج، حتى قال صلى الله عليه وسلم: “يمرقون من الإسلام”!

وذلك أن المذاهب البدعية قائمة على تقديم العقل على النقل، والرأي والهوى على النص، وهذا أساس كل بلية بدعية لاقتها الأمة، أشار إلى هذا غير واحد، كشيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله، يقول ابن القيم: وفساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل.”[7]

وما من بدعة حدثت إلا ولها تاريخ بدأت فيه؛ فبدءا بزمن الصحابة إلى عصرنا هذا، ولا تزال تتولد وتحدث، لا سقف لها طالما يسوقها ويشرعها العقل البشري لا الوحي النبوي والهدي السلفي؛ وهذا من أعظم الأدلة على بطلان هذه المذاهب: أنها مولدة حدثت بعد عهد الرسول ﷺ، وخالفت ما كان عليه الصحابة، كما جاء عن التابعي الجليل ميمون بن مهران حينما سئل عن بدعة الإرجاء: قال أنا أكبر منه! يعني: دينٌ وُلد بعد زمن الوحي حري بأن يكون بدعة ضلالة!

فعليك بعد تأملك للنصوص المتقدمة، أن تتأمل أكثر فأكثر في واقعك وواقع البدع من حولك، فمنا من تحوطه الجماعات الصوفية، ويرى بدعها ليلا نهارا، ومنا من يعيش بين مذاهب الرافضة، ومنا من يعيش تحت وطأة الخوارج من داعش ونحوها، ومنا من يعيش بين جماعة التبليغ الصوفية، والكثير لا يخلو من مقارعةٍ ومزاولةٍ ومعاينةٍ ومعايشةٍ للتنظيمات السياسية الإسلامية!

فقارن واسأل وتأمل:

أين سينتهي الحال بالمناصرين لخوارج العصر من التنظيمات السياسية الإسلامية البدعية فضلا عن المنتسبين إليها؟!

وسنعقد بإذن الله تعالى مقالات لإيراد الأدلة على الفرقان بين سبيل الله وسبل الشيطان.

وكتب علي بن عبد الحميد السالم.

29 جمادى الآخرة لسنة 1442 للهجرة.


[1] متفق عليه.

[2] رواه أحمد (4142) وصححه الألباني.

[3] رواه أحمد 17144 وأبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه جمع، منهم الألباني رحمه الله في الإرواء 2455.

[4] روى أحمد (45/ 35) 27089 وأبو داود والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يا نساء المؤمنين، عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات “. وفي التسبيح بالحصى حديث رواه أبو داود (1500) لكنه ضعيف فيه راو لا يُعرف. كما ضعفه الألباني رحمه الله في مواضع.

[5] سنن الدارمي (1/ 287).

[6] شرح السنة للبربهاري، ص. 37.

[7] إعلام الموقعين (2/127)

2 thoughts on “مآلك إن تعبدتَ بالبدعة !

Comments are closed.