نَهْشُ الأفاعي

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: “إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين”[1] وروي عنه ﷺ: ” إذا كانت أول ليلة من رمضان، صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة “[2]

ومعنى الحديث: “أنه في شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التي بها وبسببها تفتح أبواب الجنة، ويمتنع من الشرور التي بها تفتح أبواب النار وتصفد الشياطين، فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار، فإن المصفد هو المقيد لأنهم إنما يتمكنون من بني آدم بسبب الشهوات فإذا كفوا عن الشهوات صفدت الشياطين.”[3] قاله ابن تيمية رحمه الله، وقال: “فإن مجاري الشياطين الذي هو الدم ضاقت وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره ولم يقل إنهم قتلوا ولا ماتوا بل قال: “صفدت “، والمصفد من الشياطين قد يؤذي لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان فهو بحسب كمال الصوم ونقصه فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعا لا يدفعه دفع الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل.”[4] وقال ابن مفلح رحمه الله: “ومعنى صفدت غلت، والصفد: الغل، وهو معنى سلسلت، والمراد المردة، فليس فيه إعدام الشر، بل قلته، لضعفهم.”[5]

فرمضان شهر الخيرات والأعمال الصالحات، والناس فيه تقبل على رب السماوات، وتكثر فيه من بين شهور السنة من التعبد والتأله والدعاء والرجاء والتضرع والإنابة والخشوع، وجميع الطاعات، وتفتح قلوبها لسماع القرآن، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وتصغي بقلوبها وآذانها لمن دعاها إلى الرحمن، وطريق الجنان، لعلها تفيق بعد غفلة، وتتوب بعد معصية، وتهتدي وتستقيم على السنة!

ولأجل هذه الحال الطاهرة الشريفة التي تعتريها في هذا الشهر، أدرك دعاة المناهج المحدثة أنه “شهر فرصة للانقضاض” فيزرعون ويحرثون، ينثرون سنابل الشر في كل زاوية، ليحصدوا ثمارها ولو بعد حين، ووالله ما هو بحرث الخير، وإنما بزرع الفتن والإفساد في الأرض، {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} فقد خرجت الثعابينُ من عرزالها لتنهش، وانتعشت بعد بيات شتاها لتفترس، فتجد لهم نشاطا لا نظير له من بين الشهور، لتبدأ عملية الدعوة إلى مناهجهم المحدثة، ولينتهزوا فرصة لا تعتاض، فالناس في هذا الشهر فرائس سهلة، لتحوير العقول وتحريف الأصول!

فاحذر ثم احذر، ولا تنخدع مع المخدوعين، وكن كيسا فطنا، صاحب سنة وثبات!

وإليك هذان المثالان:

الأول عن أئمة السنة حيث كانوا يخافون على أنفسهم من تأثير سماع الباطل، قال رجل لابن سيرين: إن فلانا يريد أن يأتيك، ولا يتكلم بشيء قال: قل لفلان: لا ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة، فلا يرجع قلبي إلى ما كان.[6] ومثل هذا عن السلف كثير، وهم أئمة، يوصي كابرُهم صغيرَهم ألا يمكنوا صاحب هوى من أسماعهم، قال أيوب السختياني الإمام: قال لي أبو قلابة التابعي: يا أيوب احفظ عني أربعا: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك، فينبذوا فيه ما شاءوا.[7]

المثال الثاني، أن صاحب البدعة لن يدخلك في بدعته وشبهته في أول لقاء، أو بتعبيرنا اليوم، هكذا صراحة أمام الملأ، وإنما همه اليوم، أن تعطف عليه، وتحب الرقائق التي تفوح بلسانه، مكراً، ثم إن وثقت منه وأحببته، غرز فيك ما يفسد دينك، كما قال مفضل بن مهلهل: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته، وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدو مجلسه، ثم يدخل عليك بدعته، فلعلها تلزم قلبك، فمتى تخرج من قلبك.[8]

فأعيذك أن تغتر بعقلك، ويخيل لك أنك تسمع ثم تحكم، فقد ضل من هو أعلم منك وأعقل، وخاف من هو أورع منك وأعلم وأكيس، فثبت الله هذا على السنة، وزاغ ذاك بهواه إلى البدعة!

والمرجو من صاحب السنة ومن يليه من أهله ألا يلقوا بأيديهم وأسماعهم وقلوبهم إلى التهلكة، وليصونوا أسماعهم -كما صانوا ألسنتهم في رمضان- عن “مشايخ الصحوة” الذين مآلا دعوتهم إلى شتات الأمة وتمزقها، كما رأينا في ثورات الخريف -لا الربيع- البائسة، فضلا عن خراب العقيدة الصافية النقية التي عليها الفرقة الناجية إلى عقائد الفرق الضالة والتنظيمات السياسية الثورية!


[1] متفق عليه.

[2] رواه الترمذي وابن ماجه (1/ 526) عن أبي هريرة مرفوعا، والإسناد تكلم عليه البخاري فيما نقله الترمذي وأن أبا بكر بن عياش أخطأ فيه، والشيخ مقبل الوادعي ذكر هذا وأقره في “غارة الفصل” ومال إلى انقطاعه، والألباني يصحح الحديث في صحيح الترغيب والترهيب، فلعله لأجل ما يشهد له في حديث أبي هريرة وغيره، لكن تفردت الرواية بلفظ “مردة الجن”، فإن وُجد ما يشده وإلا ففي ثبوت اللفظة نظر، خاصة إذا علمنا معارضته لعموم حديث أبي هريرة الذي فيه “صفدت الشياطين” فلم يستثن مردةً عن غيرهم، وقال بعضهم التخصيص لا يقتضي العموم هاهنا، ونقل ابن حجر في الفتح (4/ 114) عن الحليمي أن المراد “صفدت الشياطين”: مسترقوا السمع، ثم قال: “ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر وقال غيره المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم وترجم لذلك بن خزيمة في صحيحه وأورد..” -فذكر حديث الترمذي وابن ماجه هذا، والله أعلم.

[3] مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/ 167)

[4] مجموع الفتاوى (25/ 246)

[5] الفروع لابن مفلح (4/ 404). وأورد الحافظ في الفتح هاهنا إيرادا، فقال: “فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لاكلهم كما تقدم في بعض الروايات أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره اذلا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية وقال غيره في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية” فتح الباري (4/ 114).

[6] الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 446).

[7] الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 445)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 151) 246.

[8] الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 444).