هل يكفي أن تعرف الحق أم يجب أن تتعرف على الباطل؟

قال تعالى {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}

فالبيان وتفصيل الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن كذلك بيان وتفصيل الباطل؛ فكم في القرآن من ذكر الباطل وأهله وماذا صنعوا وماذا قالوا وكيف حاربوا الحق وعاندوا وجحدوا … إلخ.

فالآيات مفصلة ليس فقط لتعلم الحق، بل ليتبين لك طريق الضلال أيضا فتجتنبه!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

“من لم يعرف حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسولَه وأنزل به كتابه وما في طرائق الناس مما يوافق ذلك وما يخالفه لم يحصل له الفرقان الإلهي النبوي المحمدي ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.”[1]

ومن أحسن من تكلم في هذه الآية ابن القيم رحمه الله حيث يطلق عليها: بأنها: “قَاعِدَة جليلة”!

ثم قال:

“قَالَ الله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين}

وَقَالَ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تولى} الْآيَة

وَالله تَعَالَى قد بَين فِي كِتَابه:

– سَبِيل الْمُؤمنِينَ مفصّلة وسبيل الْمُجْرمين مفصّلة

– وعاقبة هَؤُلَاءِ مفصّلة وعاقبة هَؤُلَاءِ مفصّلة

– وأعمال هَؤُلَاءِ وأعمال هَؤُلَاءِ

– وأولياء هَؤُلَاءِ وأولياء هَؤُلَاءِ

– وخذلانه لهَؤُلَاء وتوفيقه لهَؤُلَاء

– والأسباب الَّتِي وفْق بهَا هَؤُلَاءِ والأسباب الَّتِي خذل بهَا هَؤُلَاءِ

وجَلّى سُبْحَانَهُ الْأَمريْنِ فِي كِتَابه وكشفهما وأوضحهما وبيّنهما غَايَة الْبَيَان حَتَّى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الْأَبْصَار للضياء والظلام؛

فالعالمون بِاللَّه وَكتابه وَدينه عرفُوا سَبِيل الْمُؤمنِينَ معرفَة تفصيلية وسبيل الْمُجْرمين معرفَة تفصيلية فاستبانت لَهُم السبيلان كَمَا يستيبين للسالك الطَّرِيق الْموصل إِلَى مَقْصُوده وَالطَّرِيق الْموصل إِلَى الهلكة فَهَؤُلَاءِ أعلم الْخلق وأنفعهم للنَّاس وأنصحهم لَهُم وهم الأدلاء الهداة برز الصَّحَابَة على جَمِيع من أَتَى بعدهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة..”

ثم بين ابن القيم رحمه الله سبب نيل الصحابة رضي الله عنهم ما نالوا من معرفة الحق وتعظيمه وأنهم عرفوا الباطل وعاينوه ولأن الضِّدّ يظْهر حسنه الضِّدّ وَإِنَّمَا تتبين الْأَشْيَاء بأضدادها

ثم قال: وَأما من جَاءَ بعد الصَّحَابَة فَمنهمْ من نَشأ فِي الْإِسْلَام غير عَالم تَفْصِيل ضِدّه فَالْتبسَ عَلَيْهِ بعض تفاصيل سَبِيل الْمُؤمنِينَ بسبيل الْمُجْرمين فَإِن اللّبْس إِنَّمَا يَقع إِذا ضعف الْعلم بالسبيلين أَو أَحدهمَا كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب إِنَّمَا تنقض عرى الْإِسْلَام عُرْوَة إِذا نَشأ فِي الْإِسْلَام من لم يعرف الْجَاهِلِيَّة وَهَذَا من كَمَال علم عمر رَضِي الله عَنهُ.. إلى أن قال: وكل مَا خَالف الرَّسُول فَهُوَ من الْجَهْل فَمن لم يعرف سَبِيل الْمُجْرمين وَلم تستبن لَهُ أوشك أَن يظنّ فِي بعض سبيلهم أَنَّهَا من سَبِيل الْمُؤمنِينَ كَمَا وَقع فِي هَذِه الْأمة من أُمُور كَثِيرَة فِي بَاب الِاعْتِقَاد وَالْعلم وَالْعَمَل هِيَ من سَبِيل الْمُجْرمين وَالْكفَّار وأعداء الرُّسُل أدخلها من لم يعرف أَنَّهَا من سبيلهم فِي سَبِيل الْمُؤمنِينَ ودعا إِلَيْهَا وكفّر من خالفها واستحل مِنْهُ مَا حرمه الله وَرَسُوله كَمَا وَقع لأكْثر أهل الْبدع من الْجَهْمِية والقدرية والخوارج وَالرَّوَافِض وأشباههم مِمَّن ابتدع بِدعَة ودعا إِلَيْهَا وكفّر من خالفها.. [2]

ثم تكلم رحمه الله بكلام بديع في أقسام الناس في هذا، ولولا خشية الإطالة لنقلته برمته.


[1] ابن تيمية في الرد على الشاذلي (ص. 108)

[2] الفوائد لابن القيم (ص. 109)