النفس لها طبائع بشرية، جُبِلتْ عليها، لا بد من مراعاتها، منها التأثر بمن هو حولها ويحيط بها، فإن كان شرا تأثرت به، وإن كان خيرا تأثرت به. كما قال تعالى عن ملكة سبأ {إنها كانت من قوم كافرين}؛ فإنها ملكة (!)، وفيها أصل الخير ومنبعه، ومع ذلك، كان ما حَوْلها من الشر وأهله يحجبها عن الهداية! فلما كُشف عن الحق الحجاب ورأته بدلائله وعاينت الخير الذي فطرت عليه {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فنعم الملِكة كانت!
فالنفوس متأثرة، حتى بأضعف المخلوقات، كما قال ﷺ: «الفخر، والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم، والإيمان يمان، والحكمة يمانية»[1]؛ فتأمل كيف آلت مجالسة البهائم إلى التأثير في الطبائع، فهذا في بهيمةٍ عجماء، فكيف بمن أوتي سحرَ البيان وسلاطةَ اللسان، كما قال ﷺ: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان»[2] وقال ﷺ: «إن من البيان لسحرا»[3]. واليوم، سحر البيان ممزوج بوسائل تقنيات الزمان، فالخطب أعظم، والتأثير أشد، فالله المستعان!
ولهذا جاءت هذه الشريعة الكاملة باعتبار هذه الحقيقة البشرية، وسد كل ذريعة وباب يعكر عليها صفو طِباعها؛
فشرع فيها: التذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} وقال {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وقال {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
وشُرع فيها: الابتعاد عن الشر وأهله، كالأمر بالهجرة، والفرقان، والعزلة، وترك مجالسة أهل الأهواء والباطل، وترك سماع الجهال؛
كما قال تعالى {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}
وقال {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }
وقال للذين تركوا الهجرة الواجبة: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها}
وتأمل حديث قصة قاتل تسعة وتسعين نفسا، لما جاء يسأل أعلم أهل الأرض عن توبته، فقال له: “ومن يحول بينه وبين التوبة؟! اخرج من القرية الخبيثة التي أنت بها، إلى قرية كذا وكذا، فاعبد ربك عز وجل فيها..”[4] وفي لفظ لمسلم: “نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء..”[5]. فسماها قرية خبيثة، وأرض سوء، بسب من فيها من أهل الشر، ولئلا يرجع إلى الشر، أمره بفراقها، ولهذا قال ﷺ: ” الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. ” رواه أبو داود والترمذي، وحسنه لغيره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 597) برقم: 927.
وأختم بقوله ﷺ: “إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحر الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه”[6].
فتدارك نفسك، واحرص على تحري الخير، وتوقي الشر!
حفظنا الله وإياكم،
علي.
[1] متفق عليه.
[2] رواه أحمد (1/ 289) وصححه الألباني في الصحيحة (3/ 11) رقم: 1013.
[3] صحيح البخاري (7/ 19) رقم 5146 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] مسند أحمد (18/ 220) بسند صحيح.
[5] صحيح مسلم (4/ 2118)
[6] سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (1/ 670) برقم 342.