أهل الحديث هم أهل النبي .. فإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
من أبرز ما امتاز به العرب الذين بعث فيهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن غيرهم: قوة الحافظة، وسيلان الذهب، والقدرة على التعبير الدقيق، والفهم لدلائل الخطاب. فكان القرآن معجزة إلهية، لم يتمكن هؤلاء الفطاحل في اللغة أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وفواتحه، واختصر له الكلام اختصارا، فكان أفقه الناس بشرع الله تعالى هم أعلم الناس بنص الوحيين الكتاب والسنة. فوفق الله من المسلمين من يقوم بهذا العبء العظيم، وهو تبليغ الحديث، فعمدوا إليه واعتنوا به حفظا وفهما وتفقها، فكل ما بلغهم حفظوه، سواء فهمه المبلغ أو لا، كما قال صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءأ سمع منا مقالة فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه -يعني يحفظ كلامه صلى الله عليه وسلم- غير فقيه. يعني لا يتمكن من استخراج الفقه منه، وإنما حسبه أن يحفظه، ومع ذلك فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة، لأنه كان حاملا لأشرف الألفاظ، حتى يأتي من بعده فيستنبط منه ما يحتاج إليه هو وسائر الناس. ومن أمثل هذه الأمثلة ابن عباس رضي الله عنه كيف استخرج من الحديث ما لم يبلغه بعض من كان أكبر منه في الصحبة، كما في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قَالَ: وَمَا رُؤْيَتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ» [«صحيح البخاري» (5/ 149 ط السلطانية)]
ومن هؤلاء الذين فتح الله عليهم في الفهم والفقه، من لقبه أهل الحديث بناصر الحديث، لأنه نصره في مقابل أهل الرأي، وهو الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله. ومنهم شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه النجيب ابن قيم الجوزية رحمه الله. والقائمة تطول، نسأل الله تعالى أن يلحقنا بركبهم.
والمقصود أن نذكر قصة كتاب إنما ألفها أحد العلماء الغيورين على أهل الحديث، فأراد أن يذب عنهم ما يرميهم به من يزدريهم ويحقر اشتغالهم بالحديث، وأنهم يروون من الأحاديث ما لا فائدة فيه، فألف هذا الكتاب!!
القصة كاملة في الراط: